قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالات الأستاذ حسين المحروس
 
من البلاد القديم إلى الحلم الجديد
حسين المحروس - 2007/02/06 - [الزيارات : 7469]

من البلاد القديم إلى الحلم الجديد
شيخة الماحوزي .. كأس القراءة

 

حسين المحروس - نسرين شرف:

- أنت خطيب تقرأ في المآتم؟
- لا.. أنا لا أجيد الخطابة.
- ماذا تفعل إذاً؟
- أحياناً أكتب.. أحيانا أصوّر.. أحيانا لا شيء.
- يعني أنت لست ملا؟
- لا..
- ولماذا لا تصبح خطيباً؟
- هههه.. لا أعرف.. هل شكلي يناسب؟
- هههه.. ظننتك ملا.
- حسنا.. سوف أصبح خطيباً حسينياً إن أردتِ.
- وأنا سوف أعلمك وأدربك.
- متى نبدأ.. بعد عشرة محرم زين؟
- ههههه.. إذا لم أمت.
- يطوّل الله في عمرك.
- رأيتُ أمّي بنت علي بن حسن البارحة في الحلم. وددت لو أعناقها لكن بيني وبينها ما يشبه الشباك. كنت أبكي كثيراً. سألتني لِم لم تعودي تزوريني مثلما كنت تفعلين؟ لا متني كثيراً فأخبرتها بأنّي قادمة إليك يوم الجمعة المقبل.. سألتني: هل هذا وعد؟ فأجبتها: نعم، هذا وعد. ثقي بأني سآتي إليك يوم الجمعة، قالت: إذاً نحن نترقب مجيئكِ. وها أنا أنتظر موعد اللقاء بها.
- يعطيك طول العمر.. هل ترين الأحلام كثيراً؟
- نعم.. رأيت من الأحلام في منامي ما يفوق يقظتي في حياتي. رأيت أموتاً كثر. كنت أسألهم فيقول لي طيف: الموتى لا يقبلون أن تسأليهم. رأيت سفنا تسير في البحر بلا دفة وبلا مجاديف. رأيت مستشفى على الماء، وفي الماء منعطفات. لكن أكثر ما رأيت أمي شيخة بنت علي بن حسن الماحوزي.
- ربّما لأنّك تفتقدينها؟ 
 
مدّت الملاية زهراء مكي عيسى آل نوح (75 عاما) يدها إلى مجموعة كتب قديمة قالت إنّها من كتب أمها الملاية بنت علي بن حسن التي توفيت قبل نحو 30 عاماً ‘’ هذه من كتب أمي رحمها الله اسمع ما يقوله الشاعر:
ليش يالميمون... مندهش شحالك.. مجبل عليه
تجر بلجامك.. تصهل شمالك...ونتك خفيه
جيتني خالي....وين خيالك....عفته رميه
وين أخوي حسين... عن صواوينه
راح من إدينه

 

كان ابني يقول لي كلما سمعني ألحن أبيات الشعر: صوتك يشبه الرادود العراقي حمزة الصغير.

ترحمت الملاية زهراء على أمّها وعلى أيام قضتها برفقتها إلى الأفراح والأحزان في جميع قرى البحرين. هكذا وافقت الملاية زهراء أن تسرد لي شيئا من سيرة أمها على الرغم من أنّي زرتها من غير موعد سابق معها. اصطحبتني أختي إلى المكان الذي تسكن. سمعت حوارهما، وسمعت موافقتها أيضاً من دون تردد.

‘’وُلدت أمّي في قرية البلاد القديم، في بيت أم السيد، أعني خاتون السيد حسين القارئ والدة السيد عدنان بن علوي الموسوي (1882-1928)، والد الخطيب العدناني محمد صالح الموسوي (1918-2007). كان في بيتها ثلاث عائلات. صارت أم السيد تعلم أمي القراءة والكتابة حتى أتقنتهما، وصارت من أشهر الملايات في البحرين. لا توجد ملاية مشهورة قديما إلا أمي، كانت معلمتي بنت الحاج علي الأدرج تقول ‘’تعلمنا القراءة من الملاية بنت علي بن حسن. هي التي علمتنا، ولولاها ما استطعنا القراءة’’. وعيت على الدنيا وأنا أراها تقرأ وتكتب. تقرأ قبل أن أخلق. احتفظ ببعض كتبها، وبعض كتاباتها من الشعر. أعطيت ابنتي صندوقين ممتلئين بكتبها لتحفظها من الضياع والتلف.

وعت أمي الدرس صغيرة حتى حسدت وأصابت العين فلم تستطع بعدها القراءة والكتابة. وتعقد الأمر عندما كرهت القراءة تماماً. استمر بها الحال حتى جاءها رجل في الحلم أعطاها كأساً وطلب منها أن تشرب منه. قالت أمي: لكني لست عطشانة؟ فأصر عليها أن تشرب ففعلت. ومنذ ذلك اليوم صارت تمشي وتقرأ من دون توقف. لقد سقيت أمي بكأس القراءة والكتابة.

لأمّي مزاج قاس في التعليم لا تقبل أن تغادرها المتعلمة حتى يتأكد لها أنّها أتقنت الدرس جيداً. علّمتني الكتابة والقراءة. كانت خائفة عليّ، تقسو كي أتعلم. وفي أحد الأيام ضرتبن بالكتاب على رأسي ثلاث مرات، قالت ‘’بهدم حظكِ، بطيّح حظكِ. لابدّ أن تتعلمي. فهمتِ’’ كنتُ في الثامنة من عمري، وتريدني أن أصبح قارئة. بعدها صرختُ قائلة: علّميني في ‘’الفخري للطريحي’’ وسوف أقرأ. فعلّمتني:
ولقد بكيتُ لقتلِ آل محمّدٍ
بالطّف حتى كلّ عضو مدمعُ

بعدها حملت نفسي وذهبت إلى بيت عائلة الأدرج في حي النعيم وقمت بتحنينها. أحنن القراءة يعني أني أقرؤها دائما. فقالت امرأة ‘’انظروا ألم تقل بنت علي بن حسن أن ابنتها لا تقرأ؟ هذه البنت ستصبح ‘’هيبة’’ أكثر من أمّها، ستصبح داهية، مازالت ‘’ جنيّة’’ أي طفلة وهي تقرأ مثل العجائز. بعد ذلك شهقت وقالت ‘’يا علي بن أبي طالب بنت علب بن حسن لا تكذب، لكن أنظروا كيف كذبت علينا وقالت إن ابنتها لا تعرف القراءة ولم تختم القرآن، وها هي تقرأ. وهم لا يعرفون شيئا. فلما جاءت أمي أخبروها بقراءتي مندهشات. لقد أصابتني العيون منذ ذلك اليوم. أصبحت لا أحب القراءة، ولا أحب الذهاب إلى أي مكان، وغالبا ما ينتفض بدني وأُصاب بالرجفة عندما أذهب للقراءة.

لم ترد أمّي أية راغبة في التعلم خائبة حتى لو كلفها ذلك كثيرا من الوقت، أو الجهد ولو كان على حساب صحتها وسلامتها. كانت تخرج ليلاً لتعلّم امرأة تدعى ‘’مريم النشيط’’ وتظل ساهرة تعلمها حتى منتصف الليل. تخرج من عندها أمي تحمل فنراً يضيء لها الطريق. ما كانت تخاف شيئاً. وقد يصادفها ناطور الحكومة فيسألها من بعيد ‘’شِنت؟’’ أي: مَنْ أنت؟ فترد أمي: صديق.

كانت أمّي تقرأ كثيراً وتكتب الشعر في المناسبات وفي آل بيت النبي محمد. وفي يوم زارتها امرأة تدعى ‘’شيخة’’. كانت أمي مريضة. سألت شيخة أمي إنّ القارئات فقدن كتباً مجموعاً فهل صار ضمن كتبها؟ قالت لها أمّي إنّها لا تعلم بذلك، ثمّ أشارت إلى صندوق في غرفتها. وقبل أن تنتهي إشارتها كانت شيخة قد فتحت الصندوق بسرعة. أخرجت كتباً ملفوفة في قماش أبيض يشبه غترة الرجل ‘’الشماغ’’ - إيه.. لقد رأيتُ أمي في الحلم وأخبرتها بأنّي قادمة إليها يوم الجمعة - ومنذ ذلك اليوم لم ير أحد تلك الكتب.

ليست هذه الحادثة الوحيدة. فكثير مما تراه في كتب المراثي اليوم من كتابة أمي، أخذوها وتداولوها. جاءتها امرأة تدعى ‘’نصرة’’ طلبت منها أن تعطيها ما تكتب وترثي فاستجابت أمي لها ولم تكن تعلم بنواياها. أخذت ‘’نصرة’’ الكتابات وذهبت بها إلى قريبها الذي كان يملك طابعة يدوية. طبع الكتاب عليها ثم نسخ منه 1000 نسخة، أعطت منها أمي 10 نسخ وباعت ما تبقى في جزيرة سترة.

لم يكن هناك كهرباء فكانت أمّي تقرأ في المآتم على ضوء الشموع. وكان الناس ينذرون بالشموع للمآتم. يسمونها ‘’شموع العسل’’ وأحياناً تحت ضوء الفنر. تقف في مأتم النساء تحمل الكتاب بيد، والشمعة في يدها الثانية حتى نزل ماء أبيض في عينيها اشتكت منه كثيراً، ودخلها من الغم الكثير. كيف ستقرأ إن ساءت عيناها؟ اقترح عليها عمي الحاج عبدعلي آل نوح - رحمه الله- أخذها إلى الدكتور سنو الذي كان موجوداً في مستشفى النعيم في الستينات فرفضت أمي الذهاب. أخبرها عمي أنّه سيأتي لأخذها يوم السبت في سيارته. كان عدد السيارات حينها قليلا جداً. جهزت أمي نفسها. كانت خائفة من المستشفى، وأنّهم أجانب.

في صباح السبت خرجت أمي. وقبل أن تغادر الباب حملها عمّي وهو يصيح ‘’لا إله إلا الله’’ طلبت منه أن ينزلها فرفض خوفاً من أن ترجع في كلامها. وضعها في السيارة نحو الدكتور سنو. هناك رأت المرضى، وأجرى لها عملية في عينيها فقالت شعرا:
مشكاك لله يا حكيم النعيم مشكاك
قتّلت عبيد الله جعل هالنار مثواك
ما تراقب الله يا لعين على سواياك

هذه القصيدة طويلة ضاعت ضمن الكتب التي صادرتها ‘’شيخة’’ من أمي. ولما صار الناس يموتون في المستشفى، وليس لجثثهم مكان قالت:
وش هالنجاسة يارجس وش هالطفاسة يبيتونهم في بنقلة ظلمة وخلاســة
حتى الملك منهم يظل مدعوس راسه والجن تعض ابدانهم حتى الخواصر

كانوا يضعون الموتى في صناديق مفتوحة بانتظار عوائلهم. وفي الصباح يرون آثار عض الجنّ في خواصرهم.
نجحت العملية. ظلت أمي في المستشفى 10 أيام. أعطاه الدكتور سنو نظارة. صارت ترى أفضل من السابق. حمدت الله وقالت لسنو ‘’لا أبقاني الله بعدك يا دكتور سنو. والله سوف أقف لك يوم القيامة وأدخلك الجنّة. سأقول للإمام الحسين يومها هذا الدكتور سنو جعلني أقرأ مصيبتك، ولن أدخل الجنة إلا به فالمؤمن يشفع لألف شخص وجبت عليهم النار’’ طلب سنو من أحد مساعديه ترجمة ما قلته أمي ففعل.
انكسرت نظارتها مرّة فعادت إلى مستشفى النعيم فأعطيت لها نظارة أخرى، قامت الدكتورة ‘’مترن’’ بربطها. وهي دكتور انجليزية. وفي الحي مرّت بها امرأة تقول ‘’الحين تلبسين نظارة على الكبر؟’’

ظلّت أمّي تقرأ في مآتم النساء حتى شبّ حريق في بيتنا، خرجت تطلب النجدة فأصيبت في رجلها وشُلّت. كنتُ يومها في رحلة إلى العراق وإيران. تدهورت صحة أمي في المستشفى أكثر. أخذتها إلى البيت. ظلت مشلولة حتى توفيت رحمها الله.

أذكرها تلبس الرداء، وغطاء أسود على وجهها ‘’بوشية’’ تنتهي بحزم من الخيوط الملونة. كانت أمي تجيد الخياطة، وتخضيب النساء، وتزينهن بالحناء. فإذا ما وقفت للقراءة في مآتم النساء ارتدت شالاً أسود ومنديلا أسود، تحمل الكتاب بيد، وتلوح بيدها الأخرى وهي تقرأ النعي. كأني أسمع آهتها الطويلة في مطلع النعي: آآآآآآآه...

طباعة : نشر:
 
جميع المشاركات تعبر عن رأي كاتبها
 
الاسم التعليق